يكتب شاين بارّيش أن القرارات عالية الجودة تغيّر مسار الحياة، وأن معظم الناس يعيشون عقودًا كاملة من غير ما يتعلّموا فعليًا كيف يفكّروا عند أخذ قرار واحد مهم. يروي تجربته في وكالة استخبارات أمريكية وهو في الرابعة والعشرين؛ لحظة اضطر فيها لاتخاذ قرار حساس بينما تتدفّق معطيات متضاربة، والخطأ قد يعرّض حياة جنود للخطر. أدرك وقتها أنه ليس هناك من يعلّمه كيف يفكّر، فبدأ يعلّم نفسه.

تقول منصة فرنام ستريت، إن العالم لا يقدّم لنا مادة اسمها “صناعة القرار العملي”. القرارات الجيدة ليست مهارة واحدة، بل أدوات وسلوكيات ونماذج ذهنية. المهم ليس الذكاء الخام، بل القدرة على فهم الموقف وتحديد موقعك داخله.

 

النماذج الذهنية ومشكلة الثقة المفرطة

 

يبني كل إنسان قراراته على نماذج ذهنية، حتى لو لم يسمِّها. النموذج الذهني مجرد “اختصار” لتفسير العالم، فكرة السرعة والاتجاه في الفيزياء، أو “المعاملة بالمثل” في العلاقات، أو “النسبية” التي تذكّرنا بأن منظورنا محدود. المشكلة أن الاعتماد على نموذج واحد يجعل التفكير مختلًا. كثير من الناس يقعون في فخ قوائم الإيجابيات والسلبيات التي تنفع في اختيار ساندويتش، لكن تفشل في قرار مصيري مثل تغيير العمل أو اختيار شريك حياة.

يشير النص إلى أن أذكى الناس يقعوا في أخطاء ضخمة: نابليون عندما غزا روسيا، إدارة ناسا عندما تجاهلت مشكلة الـ O-Ring في تشالنجر، أو إدارة دايملر التي وافقت على الاندماج الكارثي مع كرايسلر. الذكاء وحده لا يحمي من القرارات السيئة؛ العمل تحت ضباب نفسي أو نموذج واحد ناقص يدمّر كل شيء.

 

العالم متعدد التخصصات… والعقل كذلك

 

يؤكد الكاتب أن المعرفة ليست ملكًا للتخصصات. الفيزياء يمكن أن تشرح العلاقات البشرية، والشعر يمكن أن يفتح بابًا في الإدارة، والتاريخ يقدّم أدوات للقرارات اليومية. المجتمع يطالب كل فرد أن يصير “خبيرًا ضيقًا”، بينما اتخاذ قرار جيد يحتاج عقلًا واسعًا، يرى الظواهر من زوايا مختلفة.

يضرب مثالًا بمشروع مانهاتن: تفاعل نووي صغير يتحوّل إلى قوة هائلة. النموذج نفسه يمكن أن يطبّقه الإنسان على عاداته، أو قراراته الصغيرة التي تتضاعف آثارها بمرور الوقت. العالم يعمل بمبدأ “النتائج المركّبة”، والعقل الذكي يستغل هذا بدل ما يقاومه.

في فقرة أخرى، يذكر الكاتب كيف أدرك وارن بافيت وتشالي مانجر انهيار قطاع “المدّخرات والقروض” في الثمانينيات. غيّر الاثنان استراتيجيتهما مبكرًا قبل أن ينهار السوق بالكامل، فخرجا بخسائر محدودة بينما غرق الآخرون. العقل المنظّم يعرف أين يقف، ويعيد حساباته بلا عناد.

 

العمى المريح.. ولماذا نكرر الأخطاء؟
 

يشير النص إلى أن الناس تستخدم خرائط مختزلة للعالم، لكنها تنسى أن “الخريطة ليست الأرض”. الجنرال باتون اكتشف ستة جنود واقفين على ضفة نهر لأن “الخريطة” قالت إنه عميق، بينما النهر في الحقيقة لم يتجاوز الركبة. المشكلة ليست في الخريطة، بل في التصديق الأعمى.

الأمر نفسه يظهر في عالم الأعمال: الشركات التي تتهافت على "الصناعات اللامعة" تفشل لأنها تتنافس مع لاعبين أقوياء جدًا. النجاح يحتاج “تباينًا” أو مجالًا أصغر حجمًا، تمامًا كما يفعل بافيت عبر شراء شركات ليست جذابة لكثيرين لكنها تمنحه أفضلية واضحة.

وتظهر أهمية “النسبية” في قصة الضابط مايكل أبرشوف، الذي حوّل أسوأ سفينة في الأسطول إلى الأفضل عندما فهم أن الحل يبدأ من رؤية الأمور بعيون البحّارة لا بعيونه فقط.

هذه الأمثلة تذكّر بأن الإنسان يخطئ لأنه يصدّق خرائطه الخاصة، أو يتجاهل الإشارات التي تطلب منه إعادة التفكير، أو يخضع لتأثيرات نفسية يرفض الاعتراف بها.

 

كيف نفكر بشكل أفضل؟


يشرح النص أن تحسين القرار يبدأ بنموذجين أساسيين:

 

– الانعكاس: التفكير في الشيء بالعكس. بدل السؤال “كيف أنجح؟” اسأل “كيف أفشل؟” ثم تجنّب ذلك.

 

– النتيجة الثانية: السؤال المستمر “وبعدين؟” لأن كل قرار يحمل وراءه سلسلة نتائج غير مباشرة.

 

– الخريطة ليست الإقليم: إدراك الفرق بين الواقع وتمثيلاته، بين شاشة الهاتف والعالم الذي تصفه.



هذه الأدوات، ومعها غيرها، تجعل العقل أقلّ تعرّضًا للغباء وأكثر قدرة على رؤية الفخاخ قبل الوقوع فيها.


يعرض فرنام ستريت فكرة بسيطة: لا أحد ينجو من أخطاء التفكير، لكن يمكن لأي شخص تقليل أخطائه إذا جمع بين معرفة واسعة، ونماذج ذهنية متنوعة، وعملية تفكير واضحة. القرارات ليست مقامرة؛ هي ممارسة واعية، تشبه شحذ سكين العقل كل يوم. وكلما وُسِّع الصندوق الذي نضع فيه أدوات التفكير، صار العالم أقلّ ضبابية وأكثر قابلية للفهم.

 

https://fs.blog/smart-decisions/